المقدمة:
في عصر تتلاقى فيه الخرافة مع الفضول، يقف التاريخ شاهدًا على وقائع كثيرة تُظهر ضعف الإنسان أمام الادّعاءات الخارقة. من بين تلك الحكايات التي رصدها المؤرخ المصري الجبرتي تبرز قصة رجل عُرِف في زمان الاحتلال الفرنسي باسم "السيد أحمد المغربي" — شخصية ادّعت اتصالًا بالقداسة والغيبيات، واجتذبت حولها الكثيرين من الناس من مختلف الطبقات. هذه القصة، كما وثقها الجبرتي، ليست مجرد رواية حدث، بل مرآة لمسائل نفسية واجتماعية: لماذا ينجذب الناس إلى الدجالين؟ وكيف ينكشف الزيف؟
القصة كما رواها الجبرتي:
في أيام الفرنساوية ظهر رجل قادم من جهة المغرب يُدعى "السيد أحمد المغربي". أظهر الرجل ادعاءات قوية: قال إنه من كبار الأولياء، وأنه "يكلم الخضر عليه السلام" — ادعاء بالغ الخطورة من حيث التأثير النفسي والاجتماعي — وأنه يطير في الهواء، ويعلم الأسرار، ويعالج الناس بالريق واللمس، ويقرأ على الماء فيشفي به المرضى. هذا التوليف من المعجزات المزَعومة جعل الناس يهرعون إليه من كل صوب وحدب، فامتلأت مجالسه يوميًا برجال ونساء ووجهاء وعلماء — أو على الأقل من بدا لهم ذلك علمًا أو كرامة.
كان "السيد أحمد" يوزع التمر والماء المقروء عليه، ويؤكد أنه شفاء، وبهذا الشكل بنى لنفسه سمعة ونفوذًا، وجمع مالًا كثيرًا من الذين آمنوا به أو ارتضوا الظاهر منه. وقد استمر الوضع حتى أصبحت له مجالس منتظمة وحضور جماهيري واسع.
غرائبه وأساليبه في الخداع:
ما يميّز هذه القصة ليس فقط الادعاءات المبهرة، بل الطرق العملية والبسيطة التي استخدمها لتقوية تلك الادعاءات أمام الناس:
-
كان يزعم رؤية الجن والتكلم معهم — ادعاء يثير الخوف والفضول معًا.
-
يطلب من الناس كتابة أسمائهم في ورقة ثم يغلقها، ويصف ما فيها دون فتح — أسلوب كلاسيكي للدجل يستخدم مساعدين أو حيل نفسية لخلق وهم المعرفة.
-
يطلب أشياء غريبة: "بيضة مكتوب عليها آية الكرسي" أو "قميص مبلل من المريض" — طلبات تبدو غريبة لكنها تؤسس لطقوسية تجعل الضحية أكثر اقترابًا وإيمانًا.
-
يصرح بأنه "لا يأكل إلا من يد الملك ميكائيل" وأن له "ورد خاص من السماء" — تعابير تبني هالة من التميز الروحي وتبعده عن المساءلة.
-
توزيع الماء والتمر "المقروء" عليه وبيعه أو استلام أموال مقابل الجلسات — تحويل الخداع إلى مشروع اقتصادي.
كل هذه الأساليب تظهر كيف أن الدجال يجمع بين العرض العاطفي (الخوف/الرجاء)، والطقوس، والاستعراضية، والاستفادة الاقتصادية، ومن ثم تحصين موقعه أمام النقد.
النهاية: انكشافه وعقاب المجتمع:
لم يبق الحال على ما يرام. بعض الناس تقدّموا بشكاوى إلى قاضي القضاة. فتم التحقيق، وعثروا عنده على أموال طائلة، ورسائل غرامية من نساء مغرورات (كما وصفها الجبرتي)، وأدوات سحر وطلاسم. تكشفت الحقيقة: ما بدا روحانيًا كان دجلاً وتجارة في الخرافة. فتعرض للفضح، وضُرب وطُرد من مصر — وهو مصير أن يكون عبرة لمن اعتبر.
تعليق الجبرتي وتحليله النفسي الاجتماعي:
الجبرتي لم يكتفِ بسرد الواقعة؛ بل حلّلها. كان يحذر من الانجراف خلف الدجالين وترك العلماء الربانيين، ويشير إلى أن من "رغب عن الحق، رُزق الخذلان." تعليقاته تحمل بعدين:
-
بعد توثيقي: سجل حدثي لبيان حقيقة ما جرى.
-
بعد تحليلي: قراءة نفسية واجتماعية لما يجعل الناس قابلة للانخداع — الفقر الروحي أو المادي، الجهل، الرغبة في المعجزات، ضعف الرقابة المجتمعية، وتأثير الوجاهة الاجتماعية.
لماذا ينجذب الناس للدجالين؟
القصة تعكس عدة أسباب نفسية واجتماعية:
-
الحاجة إلى الأمل والشفاء السريع.
-
فشل المؤسسات التقليدية (الأطباء، المشايخ الموثوقين) في تلبية حاجات الناس أو الوصول إليهم.
-
الطابع الطقوسي والغرائبي الذي يخلق تجربة ذات شحنة عاطفية قوية.
-
رغبة البعض في التميز أو الحصول على إجابات جاهزة للغموض.
-
تأثير الاقتناع الجماعي: كلما تزايد الحضور، زاد احتمال الاقتناع.
دروس وعِبر:
من دروس القصة:
-
احذر من أصحاب الادعاءات الخارقة: اطلب الدليل والشفافية.
-
ثق بالعلم وطرق العلاج المثبتة، واستشر العلماء الثقات عند الشك.
-
لا تخلط بين الخشوع الحقيقي والاستعراضية.
-
الرقابة المجتمعية والقانونية ضرورية لفضح الدجالين وحماية الضعفاء.
-
التعليم والتنوير هما العلاج طويل الأمد للجهل والدجل.
الأسئلة الشائعة (FAQs)
س: من هو الجبرتي؟
ج: الجبرتي مؤرخ مصري شهير دوّن أحداث عصره، واهتم بتوثيق وقائع اجتماعية وسياسية ودينية، وقد عُرف بتحليله لطبائع الناس وانعكاسات الأحداث عليهم.
س: هل كان "السيد أحمد المغربي" فعلاً من المغرب؟
ج: الرواية تذكر أنه جاء "من جهة المغرب"؛ لكن التفاصيل الدقيقة عن أصله الشخصي قد تكون قليلة أو مبهمة في مصدر الجبرتي.
س: ما الأدلة التي اعتمدت لإدانته؟
ج: بحسب الرواية، عُثر عنده على أموال طائلة، أدوات سحر وطلاسم، ورسائل شخصية، وهذه أدلة مادية فضحت ادّعاءاته.
س: هل كانت مثل هذه الحوادث شائعة في ذلك الزمن؟
ج: ظواهر الدجل ليست مقصورة على زمن واحد؛ فقد وجدت عبر التاريخ في مجتمعات متعددة، وغالبًا ترتبط بظروف اضطراب اجتماعي أو ضعف في التعليم والطبابة.
س: كيف يمكن المجتمع اليوم حماية نفسه من أمثال هؤلاء؟
ج: من خلال التوعية، تشجيع الفحص والتمحيص، تعزيز مؤسسات الرقابة القانونية والدينية، والتعليم العام، ودعم الطب والعلم.
الخاتمة:
قصة "السيد أحمد المغربي" كما رواها الجبرتي ليست مجرد حادثة من الماضي؛ إنها تذكير دائم بأن الخداع يتخذ وجوهًا متعددة، وأن الجهل والحاجة قد يدفعان الكثيرين إلى ترك منارات العلم والثقة الحقيقية. التاريخ هنا يعلمنا أن الوعي والتمحيص هما خط الدفاع الأول، وأن المساءلة القانونية والأخلاقية للمزاعم يجب أن تكون حاضرة دائمًا. لعلّ أعظم درس من هذه القصة هو أن البحث عن الحقيقة مسؤولية مجتمع، لا عبء فرد، وأن العلم والتربية هما السبيل لقطع دابر الدجل والعودة إلى طريق الرشد.