المقدمة الغامضة:
بين رمال التاريخ العميقة وأسرار الملوك الذين حكموا الأرض من الشرق إلى الغرب، تقف حكاية الملك ذو الجناح، أحد أعظم التبابعة اليمنيين، حكاية لا تُروى عن نصرٍ بالحرب، بل عن دهاءٍ ملكي وخدعةٍ غيرت مجرى التاريخ...
القصة الكاملة:
التبابعة ملوك الأرض من اليمن إلى الصين:
في العصور القديمة، حين كانت مملكة اليمن في أوج قوتها، ساد الملوك التبابعة على أقاليم واسعة تمتد من جزيرة العرب حتى تخوم آسيا.
كانوا يُعرفون بالحكمة والدهاء العسكري والهيبة التي تفرض نفسها على الممالك الأخرى، حتى قيل إن الملوك من حولهم كانوا يتبعون أوامرهم ويعملون عمالًا لهم.
وقد شهد القرآن الكريم على عظمتهم في مواضع عدّة، منها قوله تعالى في وصف حضارة اليمن القديمة:
"إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ، الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ"
كما وصف الله قوم عاد، أهل اليمن الأوائل، بقوتهم الجبارة فقال:
"فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً"
وكانت رسالة بلقيس إلى قومها حين جاءها كتاب سليمان عليه السلام شاهدة على بأسهم العظيم:
"قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ"
قوة اليمنيين وتاريخهم الضائع:
على الرغم من أن اليمن القديم كان مهد حضارة عظيمة تنافس مصر وبابل، إلا أن الكثير من تاريخه ضاع عبر القرون.
فقد كان لليمنيين لغة خاصة وكتابة مميزة، لكن القليل منها نجا من عوادي الزمن، مما جعل أخبارهم تصلنا مجزأة من خلال الكتب القديمة مثل كتاب الإكليل من أنساب اليمن وأخبار حمير وملوك حمير وأقيال اليمن.
ويروي المؤرخون أن اسم إفريقيا جاء من أحد ملوكهم، تبع إفريقيس بن ذي المنار، الذي وصل بفتوحاته حتى أراضي القارة السمراء.
كما يُقال إن التبابعة غزوا الصين، وأن أحدهم، وهو ذو الرائش، كان أول من أضاء الطرق بالمشاعل ليسير وجيشه ليلًا.
ذو الجناح… الملك الذي غزا سمرقند بخدعةٍ عبقرية:
من بين هؤلاء الملوك برز تبع اليماني شمر يرعش، المعروف بلقبه ذو الجناح، وهو من أعظم الملوك الذين غزوا الممالك البعيدة وفتحوا المدن المحصنة بالحيلة والدهاء.
قرر ذو الجناح ذات يوم أن يغزو مدينة سمرقند، التي كانت من أعظم مدن المشرق وأشدها تحصينًا.
لكن رغم طول الحصار وقوة جيشه، لم يتمكن من اقتحام أسوارها العالية، حتى وقع في يده رجل من سمرقند، كشف له سرًّا غيّر مجرى الحرب.
قال الأسير للملك:
"يا مولاي، إن ملك سمرقند رجل ضعيف العقل، لا يملك من أمره شيئًا، وإنما التي تدير المدينة وتخطط للحرب هي ابنته الذكية الجريئة."
عندها، ابتسم ذو الجناح وبدأ يُخطط لخدعة ماكرة ستُسجل في كتب التاريخ العسكري.
الخدعة الذهبية: 4000 تابوت وجيش داخل المدينة:
بعث ذو الجناح إلى ابنة الملك رسالة مزيّنة بالكلمات المعسولة، يخبرها فيها أنه لا يريد الحرب، وأنه يعشق حكمتها وجمالها، ويرغب في الزواج منها لتوحيد المملكتين وبناء إمبراطورية لا تُقهر.
انخدعت الفتاة بكلامه، لكنها قالت له:
"لن أقبل الزواج إلا بمهرٍ عظيم، فهاتي لي 4000 تابوت من الذهب الخالص."
ابتسم الملك ذو الجناح، ووافق على الفور، وأمر بإعداد 4000 تابوت كما طلبت.
لكن بدلًا من الذهب، وضع داخل كل تابوت جنديًا من خيرة مقاتليه، وأمرهم أن يبقوا ساكنين حتى يُنقلوا إلى داخل أسوار سمرقند.
وبالفعل، أُدخلت التوابيت إلى المدينة في موكب مهيب وسط احتفال أهلها، ظنًّا منهم أنها مليئة بالذهب والكنوز.
وما إن أُغلقت الأبواب حتى خرج الجنود من التوابيت كالأشباح، وفتحوا البوابات لجيش تبع.
في لحظات، انقلبت الفرحة إلى رعب، واقتحم جيش ذو الجناح المدينة، فقتل الملك وأباد جيشه، ولم ينجُ أحد.
ودمّر ذو الجناح سمرقند تدميرًا كاملًا، وجعلها عبرة لكل من يقف في وجه التبابعة.
الحكمة من القصة:
هذه القصة تُظهر أن الدهاء والعقل أحيانًا أقوى من السيوف والجنود.
فقد استطاع ذو الجناح أن يُحقق ما عجزت عنه الجيوش باستخدام خدعة ذكية بسيطة.
كما أنها تُبرز كيف كان الطمع وحب الذهب سببًا في سقوط أعظم الممالك.
أسئلة شائعة (FAQS)
س1: من هو ذو الجناح؟
هو تبع اليماني شمر يرعش، أحد أعظم ملوك اليمن القدامى من سلالة التبابعة، عُرف بقوته ودهائه وغزواته الواسعة.
س2: هل ذو الجناح هو نفسه ذو القرنين؟
يعتقد بعض المؤرخين العرب أن ذو الجناح هو ذو القرنين المذكور في القرآن الكريم، بينما يرى آخرون أنه ملك آخر من التبابعة.
س3: ما هو مصدر قصة خدعة التوابيت؟
وردت القصة في كتاب الإكليل من أنساب اليمن وأخبار حمير وملوك حمير وأقيال اليمن، وهما من أقدم المصادر التاريخية اليمنية.
س4: ما الذي يميز حضارة اليمن القديمة؟
تميزت حضارة اليمن بالقوة العسكرية، والثراء، والتنظيم، والتوسع في التجارة، إضافة إلى العمارة الفريدة مثل سد مأرب الشهير.
الخاتمة:
قصة ذو الجناح وخدعة التوابيت الذهبية ليست مجرد حكاية من التاريخ، بل درس خالد في أن الذكاء يقهر القوة، وأن الطمع قد يكون طريق الهلاك.
لقد ترك التبابعة بصمتهم في التاريخ الإنساني كأعظم الملوك الذين جمعوا بين القوة والحكمة والدهاء.
وما تزال قصصهم إلى اليوم تذكرنا بأن العظمة لا تُقاس بالحروب فقط، بل بالعقل الذي يُديرها.