المقدمة:
في ليلة لم تذكرها الساعة، اجتمع الرجال بعباءاتٍ ثقيلةٍ ونيَّاتٍ أعقد. حكايةٌ صغيرة تحمل مفتاحًا كبيرًا: ليس كل من لبس العباءة شيخ، ولا كل من حمل المال يحمل حكمة. ما قرأه القاضي في عيون رجلٍ صغيرٍ أغلق أبواب التنافس وفتح آخر — بابٌ لا يراه إلا من تربى في مدرسة الخبرة.
القصة:
مات شيخُ عشيرةٍ محبَّبٌ، وترك وراءه ولداً صغيرًا لا يقوى على حمل مسؤولية المشيخة. اجتمع رجال العشيرة لاختيار شيخٍ بديل من بين خمسة مرشحين — كلٌ منهم من أبناء كبار الرجال. لبس كل منهم عباءته وشرع في التبجح بالعلم والمال والمكانة، وحملوا معهم طفلَ الشيخ المتوفى وتركوه مع الغنم، عسى أن يرى القاضي حكمًا يقينيًا.
دخَلَ الرجال على القاضي، وسمعَ أقوالهم. قدم لهم القاضي فنجان قهوة لكل واحد وقال: "أعيدوا الفنجان فارغًا شرط ألا تشربوا القهوة ولا تسكبوها." احتار الرجال، فانقسمت الإجابات وحاول بعضهم حيلةً هنا أو هناك. حين رأى القاضي ترددهم استدعى الولد الصغير، فأعطاه فنجانًا وقال له نفس الشرط.
وقف الولد بهدوء، وضع طرف الغترة (غطاء الرأس) على الفنجان، وامتص القهوة كاملة عبر القماش حتى خلى الفنجان من السائل. رفع الغترة وقال: "فنجانك فارغ وقهوتك على رأسي." سأله القاضي بعدها: "ما المكسب، ورأس المال، والخسارة؟" فأجاب الولد بطريقة فطنة: "المكسب أن تكون أحسن من أبيك. ورأس المال أن تكون مثل أبيك. أما الخسارة أن تكون أردى منه." ثم سأله عن "أول أمس وأمس واليوم" فأجاب: "أول أمس جدي، وأمس أبي، واليوم أنا." رضِيَ القاضي عن البشارة قبل العباءة: "أعزك الله، قوموا يا رجال وخذوا شيخكم واذهبوا."
قراءة وتحليل رمزي:
القصة بسيطة في أحداثها، لكن عميقة في رموزها:
-
الغترة والفنجان: ليست مجرد حيلة، بل رمزٌ للاعتماد على المهارة العملية. الطفل لم يمتلك مالًا ولا عباءة لكنّه امتلك معرفة تطبيقية بكيفية حل المشكلة.
-
السؤال عن المكسب ورأس المال والخسارة: هنا يتبدى الفرق بين من يملك أرقامًا ومن يحمل رؤية. تعريفات الولد لا تتحدّث عن المال فقط بل عن انتقال المسؤولية والقدرة على التطور.
-
الانتقال بين الأجيال: "أول أمس = جدي، أمس = أبي، اليوم = أنا" — خلاصة التربية، أن كل جيل يبني على ما قبله، وأن العبرة في الاستمرار والتعلم، لا في مظهر السلطة.
الدروس العملية والعبر:
-
الخبرة أهم من المظاهر. العباءة لا تصنع قائدًا؛ التدريب المتواصل والمعرفة العملية هما أساس قيادة ناجحة.
-
اختبارات القيادة يجب أن تكشف الذكاء العملي. القاضي لم ينخدع بالمظاهر، بل وضع تحديًا عمليًا كشف المحسوبين من الحقيقيين.
-
التربية الداخلية تغير مستقبل المجتمع. طفل تربى في بيت شيخ اكتسب معرفة ضمنية لم تتعلمها الأقران الحاملون للعباءة فحسب.
-
تعريف الربح والخسارة لا يختزل بالمال. المكسب هنا قيمة أخلاقية ومعرفية، ورأس المال هو الإرث القيمي الذي تنتقل به المسؤولية.
-
القيادة هي خدمة قبل أن تكون منصبًا. الرجل الصغير قبل أن يصبح شيخًا، أظهر قدرة على الخدمة والخبرة والذكاء.
مقارنة بقصة يوسف عليه السلام:
تذكّر القصة، كما في السرد، قصة يوسف عليه السلام الذي تربى في بيت العزيز واكتسب معرفة ومهارات أهل السلطة حتى وصل أن يقول للملك: «اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم». الرابط واضح: التربية داخل بيت المسؤول تمنح الفهم العملي لدواليب الأمور، وتزرع قدرةً على إدارة الموارد اللازمة. ليس كل من قَبِلَ منصبًا كان أهلًا له، وليس كل من اطلّ بعباءةٍ هو أهله.
كيف نطبّق الحكمة في زمننا؟
-
في الاختيار الوظيفي: ضع اختبارات عملية قصيرة تكشف قدرة المرشح على حل المشكلات الواقعية.
-
في التربية الأسرية: علموا الصغار من خلال العمل والملاحظة لا بالقول فقط.
-
في بناء القادة: قدّموا فرص التدريب داخل منظومة القيادة، ولا تعتمدوا على الشهادات الرسمية وحدها.
-
في المنظمات: احرصوا على تحييد المظاهر عند الاختيار؛ افتحوا مقاييس تقييم حقيقية للمهارة والنزعة الخدمية.
الحكمة من القصة:
يقول الحكيم: "جالس العلماء بعقلك، وجالس الأمراء بعلمك، وجالس الأصدقاء بأدبك، وجالس أهل بيتك بعطفك." — هذه الجملة تلخّص منطق القصة: المقام يطلب مزيجًا من العقل، والمعرفة، والأدب، والرحمة.
الأسئلة الشائعة (FAQs)
س: لماذا لم يأمر القاضي أحد الرجال باستخدام الغترة؟
ج: لأن القاضي أراد اختبار المعرفة العملية، والولد الذي نشأ داخل بيت الشيخ كان لديه خبرة لا يمتلكها الآخرون، واستخدام الغترة طريقة ذكية ومباشرة لحل الشرط.
س: ما الهدف من سؤال "المكسب ورأس المال والخسارة"؟
ج: لفحص نظرة المرشح إلى القيَم والمسؤولية. يريد القاضي قائدًا يفهم أن الربح ليس ماليًا فقط، وأن رأس المال أخلاقي ومعرفي.
س: هل القصة واقعية أم رمزية؟
ج: قد تكون كلاهما؛ القصص التقليدية تُسرد كواقعات تحمل عبرًا رمزية، وما يهمنا هو الدرس لا حقيقة الحدث.
س: كيف نعلّم هذه القيم للأطفال اليوم؟
ج: عبر إشراكهم في أعمال العائلة والمنظمة، ومنحهم مسؤوليات صغيرة تربطهم بالنتائج الحقيقية وتعلّمهم حل المشكلات.
س: ما علاقة قصة يوسف هنا؟
ج: كلاهما يظهران أثر التربية داخل بيت السلطة — خبرة عملية تجعل الشخص مؤهّلاً لإدارة الموارد والثقة.
س: هل يجب أن يكون الاختبار دائمًا عمليًا؟
ج: ليس دائمًا، لكن دمج الاختبارات العملية مع المقابلات والسير الذاتية يعطي صورة متكاملة عن المرشح.
الخاتمة:
ليست العباءة عنوانًا للشيوخ، ولا المال يضمن الحكمة. القصة تعلمنا أن القيادة صناعة تُبنى بالخبرة، وأن الأجيال تنتقل بقيمٍ ورؤية لا تُشترى بباب. عندما تختار المجتمعات قادتها على أساس المظهر فقط، فإنها تخاطر بفقدان الرؤية والقدرة على الإدارة. أما حين تختار القادرين على الخدمة، فهم يضمنون استمرارية الحكمة والنمو — تمامًا كما فعل القاضي حين رأى في صمت طفلٍ صغيرٍ ما لم تراه عباءات الرجال.