المقدمة:
في زاوية هادئة من قسمٍ شبه مُظلم بالمستشفى، حيث تتبادل أجهزة القياس أنفاسًا لا تُعلن اسماءها، ثمة سرّ صغير ينام تحت وسادةٍ مهملة. ليس السر وحده؛ بل رائحة قرارٍ وذكرى وقلبٍ تحاول أن تتماسك. تأتي الأصوات متقطعة، والوقت يتباطأ كمن يريد أن يقرأ صفحة لم تكتمل بعد. هنا تبدأ حكايتنا: بكلمة واحدة لم تُنطق، وبورقة لم تُفتح.
القصة:
دخل الزوج إلى غرفة المستشفى كعادته؛ لا دمعة تسبق خطواته، ولا حزن ظاهر على ملامحه. رأى وجهها الشاحب، وعظامهّا التي برزت تحت جلدها، وكان في عينيه سؤالان: هل قرأتِ تقرير حالتك؟ وهل علمتِ بأنكِ مصابة؟ أجابته باهتزاز رأسٍ لا كلام فيه، ثم عادت لتغفو ببرودٍ غريب وسحبت الغطاء فوق رأسها كمن يريد ألا يرى شيئًا آخر.
لم يُعر الزوج الأمر سوى قسوةٍ باردة: وضع ورقة تحت وسادتها، كمن يود أن يختم صفحة ويبدأ أخرى. في الورقة كلمات قصيرة ومحسومة: «أنتِ طالق» — ووعدٌ بأن الوثيقة ستكون بيدها خلال ثلاثة أيام. خرج، لم يبكِ، ولم يلقي نظرة رحمةٍ أخيرة. أقلّ ما في الأمر أنه رمى قرارًا مصيريًا في غرفةٍ تجمّلها أنفاسٌ مريضة.
بعد دقائق، مدت الزوجة يدها تحت الوسادة وأخرجت الورقة؛ نظرت إليها، قلبها يترك أثرًا باهتًا على شفتيها، ثم ألقَت الورقة على الأرض وعادت لتنام كما لو أن أي شيء لم يحدث. كانت هذه النهاية الظاهرة: طلاق مكتوب وكلامٌ لم يُنطق. لكن الحياة عادةً ما تحملُ ما لا يتصوره عقل الإنسان.
بينما كان الزوج على وشك المغادرة نهائيًا، نادى الطبيب المعالج الزوج وطلب منه التوجّه إلى العيادة. قال الزوج بابتسامة مُتحفظة إنه سيحكي عن مشكلة زوجته، ثم أبلغ الجميع بأنها لم تعد زوجته وأن أهلها سيتولون أمرها. كان يظن أن النهاية قد حُسمت.
ألهم الطبيب الزوج بأن يخضع لاختبارٍ سريع للدم. شحَب وجه الزوج، وارتعش قليلًا، لكنه رافق الطبيب. لم تكن ساعات طويلة حتى عاد الطبيب ومعه ورقةٌ أخرى؛ التقرير أمامهما، وخبرٌ جعل الدم يتجمّد في عروق الرجل: هو كذلك مصاب بالإيدز. فجاءة ارتعدت الدنيا من حوله، لكنه لم ينهار إلا بلغةٍ قاسية: سباب وشتم واتهام مباشر للمرأة بأنها نقلت له المرض. حينها كان رد الطبيب أكثر قسوة بطريقة الحقيقة: بالنظر في تواريخ الفحوصات والمقاومة وجد أن تاريخ حُصانة الفيروس لديه أقدم من ظهور أعراض زوجته، وأن الرجل هو الذي نقل المرض إليها. انتهت المواجهة بتمزيقٍ لتقريرٍ وبانطلاق السيارة تاركًا خلفه غبار الطريق وغبار الضمير.
في المشفى كانت الزوجة تحتضر، بجانبها والدها وإخوانها. أطلّت على وجوههم الشاحبة وجاءها الصفير الأخير في صدرها. همست بضع كلمات قبل أن تُسلم الروح: تضرعت إلى الله، أقرت إن كانت مخطئة أو لا فقد ربت على أن لا يرحمها بمن يسخط، ثم نطقت الشهادتين وسلمت روحها. خرج والدها يبكي ويحذر: «زوجوا من ترضون دينه وخلقه، ألا تفعلوا تكن فتنة وفسادًا كبيرًا».
التحليل والدروس:
القصة تؤلم لأنها تضعنا أمام ثلاث نقطٍ حسّاسة:
-
المرض والوصمة: كيف يمكن للمرض أن يتحول إلى سيفٍ يُدانهُ صاحبه أو يُدمر حياة آخرين؟ الإيدز في القصة كان سببًا للاتهام والفرقة، لكنه أيضًا مرآة لأخطاءٍ أعمق.
-
النية والصدق: غياب الحوار والصدق بين الزوجين كان سببًا في تفاقم الألم. لو كان هناك فحص سابق أو اعتراف أو رعاية مشتركة، قد تغيّر الكثير.
-
الاختبار الأخلاقي والديني: النهاية تذكرنا بأن مبدأ الاختيار الزوجي والدين والأخلاق له أثرُه البعيد في حياة الناس، وأن العزة في العفة والإنسانية أفضل من الاندفاع للحكم والإدانة.
الحكمة والآية:
القصة ختمت بحكمةٍ قرآنية تُلخّص موقفًا أخلاقيًا واضحًا:
(وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا ۖ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا)
ما أجمل العفّة وما أجمل أن تكون راضيًا بما قسم الله لك.
الخاتمة:
ورقة تحت وسادةٍ واحدة قلبت مصائر: طلاق، كشف مرض، موت، ونصيحة من أبٍ باكي. الدرس ليس فقط في التحذير من الفاحشة، بل في أهمية الشفافية، الفحص، والرحمة. قبل أن تُطلق أحكامك على الآخرين، تذكّر أن العالم لا يرى ما في القلوب، وأن العدالة الحقيقية تبدأ بالصدق والرعاية.